الدين والأخلاق
في منتصف تسعينيات القرن الماضي، كنت طالباً بجامعة جورجتاون في العاصمة الأميركية واشنطن. وفي إحدى المواد كان النقاش حول التعليم ومعنى حظر تدريس مواد دينية في المدارس العامة بأميركا، إذ ُيمنع تدريس هكذا مادة في أي مدرسة حكومية، لأن القناعات الدينية مسألة خاصة لا تفرضها الدولة ولا ترعاها. من حق الإنسان أن يعتنق ما يشاء من دين أو فكر ومن حق الآباء والأمهات تدريس أبنائهم معتقداتهم الدينية في البيت أو في الكنائس والمساجد. ومن واجب الدولة أن تحمي حق المعتقد الديني والفكري شريطة ألا يسعى أي أحد (فرد أو مؤسسة) لفرض معتقده على الآخرين وألا يدعو أو يقود إلى العنف. في ذلك الحوار أيام الجامعة لفتت انتباهي الإشارة إلى أن اليابان عمقت تدريس الأخلاق في مدارسها من خلال مادة «الأخلاق» المقررة ضمن المنهج الدراسي ما قبل الجامعي منذ أكثر من مئة عام حينها. وهنا تأتي الأخلاق كقيم مشتركة وسلوك عام، في البيوت والشوارع والميادين العامة وأماكن العمل. ماذا يهمني إن كنت مسيحياً أو مسلماً أو هندوسياً أو لا دينياً؟ هذا شأن يخصك أنت وحدك وهذه علاقة خاصة بينك وبين ربك والله وحده من يحاسب الناس على قناعاتهم وإيمانهم.
في العالم العربي تبدو المسألة أشد تعقيداً. فالدين يجري في عروقنا مجرى الدم حتى وإن لم نكن متدينين. فالثقافة والوعي العام تنطلق أساساً من إرث ديني راسخ وعميق. صعب جداً أن تفصل الوعي الديني عن الوعي العام. لكن هذا لا ينفي حاجتنا الدائمة إلى مراجعة نقدية لمحتوى ما يقدم إلى طلابنا في المدارس والجامعات. فبدلاً من التركيز على مسائل خلافية أو تدعو إلى الفتنة بين المذاهب أو لا تناسب المرحلة ولا تقدم فائدة إلى الطالب، لماذا لا نركز على الأبعاد الإنسانية الإيجابية في تلك المناهج مثل التسامح والأمانة وعمل الخير ومحبة الناس واحترام الغير؟ ما الفائدة التي سيجنيها طفل صغير من تعليمه كيفية تكفين الميت أو إدخال الرعب في قلبه بالحديث المخيف عن عذاب القبر؟ وأي خدمة نقدمها إلى المجتمع بتدريس صغارنا قضايا خلافية وتلغيم عقولهم بأفكار هدامة تنتج جيلاً يظن أن فرقته هي الوحيدة «الناجية»؟ ومن سمح لمعلم «مؤدلج» أن يُسخر حصة الدين لبث أفكاره الخاصة وفق أجندة سياسية مرسومة سلفاً تهدف إلى جعل المدرسة حاضنة لحزب ما أو فكرة سياسية باسم الدين؟.
إذاً نحن مع غربلة شاملة للمناهج تُبقي وتطور المفيد وتحذف الضار أو غير الملائم للمنطق أو العصر. ثمة جوانب أخلاقية مهمة لطلابنا في تعاملهم مع من حولهم ومع الحياة عموماً هي ما ينبغي لنا التركيز عليه. فلا يمكن لأي حضارة أن تستقيم بلا أخلاق. الأخلاق أساس البقاء وشرط النهضة. ولهذا جاء الاحتفاء بالمبادرة المهمة التي أطلقها صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، والمتمثلة في إضافة مادة التربية الأخلاقية ضمن المناهج الدراسية للتعليم ما قبل الجامعي. إنها خطوة مهمة وجديرة بالتقدير بل والاقتداء في بقية البلاد العربية التي تعاني أشد المعاناة من بعض المفاهيم الدينية الخاطئة والقاتلة التي ولدت التطرف والتكفير والإرهاب!.
هذه المبادرة الخلاقة تفتح صفحة جديدة ومهمة في حوارات التنمية في العالم العربي الذي للأسف قدم الحروب الخاسرة على التفكير التنموي الإيجابي مما جعل العالم العربي في آخر القائمة في كل شيء. لا يمكنك أن تبني تنمية إنسانية حضارية ما لم تهيء أفراد المجتمع لأن يكونوا أساساً في هذا المشروع. ولا يمكن للإنسان أن يكون بناءً وفاعلاً وإيجابياً إن لم تؤهله علمياً وثقافياً وأخلاقياً.
الجميل في المبادرة أنها ربطت الحاضر بالماضي إذ من المهم أن تفهم الأجيال الجديدة قيم الآباء ورؤيتهم الأخلاقية الحضارية لأنفسهم وغيرهم. كانت الأخلاق الحميدة والرؤية الإنسانية المتقدمة عند أجدادنا من العوامل الرئيسة، التي أسهمت في تجاوز المصاعب وقتها من فقر وجوع وحاجة. هذه الأخلاق لم تقتصر فقط على معاملات الآباء بعضهم مع بعض أو معاملاتهم مع الآخر البعيد، وإنما شملت حتى تعاطيهم مع البيئة في البحار والصحاري والجبال. اللافت في هذه المبادرة أيضاً أنها شملت خمسة عناصر رئيسة هي الأخلاقيات والتطوير الذاتي والمجتمعي والثقافة والتراث والتربية المدنية والحقوق والمسؤوليات، عناصر حيوية في بناء الشخصية الفاعلة والإيجابية. وهذه المبادرة ستنعكس إيجاباً على المجتمع بأكمله وستدعم التوجه التنموي العملاق الذي تتبناه الإمارات التي تخطط للمستقبل وتخطو خطواتها الواثقة نحوه على أرض صلبة لتواصل منجزها العملاق، ليس فقط في جانبه المادي الضخم، ولكن أيضاً في أبعاده الحضارية والإنسانية المبهرة.